فصل: سئل:عن ‏(‏التمتع والقران) أيهما أفضل؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ وسئل شيخ الإسْلام أبو العّباس أحمد بن تيمية ـ رضي اللّه عنه وأرضاه ـ عن ‏[‏التمتع والقران‏]‏ أيهما أفضل ‏؟‏‏.‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، نستعينه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم تسليما‏.‏

لا يختلف مذهب أحمد أنه إذا قدم في أشهر الحج، ولم يَسُقْ الهدي فالتمتع الخاص أفضل له، وهو أن يتمتع بعمرة فيحل منها إذا طاف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم يحرم بالحج‏.‏وأما إذا ساق الهدي، فنقل المروزي عنه‏:‏ أن القِران أفضل‏.‏ فمن أصحابنا من جعل هذا رواية ثانية عن أحمد‏.‏ وجعلوا فيها إذا ساق الهدي‏:‏ هل الأفضل التمتع‏؟‏ أو القِران‏؟‏ على روايتين‏.‏

وهذه طريقة المتأخرين الذين قالوا‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم/حج متمتعًا، فإنه على هذا القول يكون النبي صلى الله عليه وسلم تمتع، وساق الهدي، وأمر أصحابه بالتمتع، فلا يبقي لاختيار القران وجه‏.‏

ولكن المنصوص عن أحمد الذي عليه أئمة أصحابه المتقدمون‏:‏ أنه حج قارنا، ولكن أمر أصحابه بالتمتع ـ من لم يسق الهدي ـ أن يحل من إحرامه، ويجعلها متعة‏.‏ وقال‏:‏‏(‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة‏)‏‏.‏

وعلى هذا القول، فهذا من باب المطلق والمقيد، فإن أحمد لم ينص على أنه من ساق الهدي فالتمتع أفضل له‏.‏ بل إنما اختار التمتع لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه به، ولقوله‏:‏ ‏(‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة‏)‏‏.‏ والنبي صلى الله عليه وسلمإنما أمر بالتحلل من لم يسق الهدي، وإنما اختار أن يجعلها عمرة، ولا يحل من لم يختر أن يجعلها عمرة مع سوق الهدي‏.‏

وأيضًا، فإن أحمد لم يقل‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم حج متمتعًا ـ التمتع الخاص ـ بل نص على أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قارنًا‏.‏ وقال‏:‏ لا أشك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، والتمتع أحب إلى؛ لأنه آخر الأمرين من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، /فإنه قال‏:‏ ‏(‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة‏)‏‏.‏ فكلامه إنما كان في أيهما أفضل‏:‏ أن يسوق ويقرن، أو يتمتع ولا يسوق‏؟‏‏.‏ لأنه إذا ساق الهدي لم يجز له أن يتحلل‏.‏ فهذا مما يختلف فيه الاجتهاد؛ لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة‏)‏، هل كان لأن التحلل بعمرة أفضل من القران، أم لا؛ موافقة لأصحابه لما أمرهم بالتحلل فشق ذلك عليهم‏.‏ فهذا مورد اجتهاد‏.‏ ولم يختلف كلام أحمد أن من لم يسق الهدي وقدم في أشهر الحج فالتمتع أفضل له‏.‏

وأيضًا، فإنه إذا ساق الهدي، وقدم في العشر لم يجز له التحلل عند أحمد، وأبي حنيفة، وغيرهما حتي ينحر الهدي يوم النحر، سواء كان متمتعًا التمتع الخاص، أو قارنًا‏.‏ وحينئذ فلا فرق بين المتمتع والقارن عند أحمد إلا في شيئين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن القارن يكون قد أحرم بالحج قبل الطواف، سواء أحرم بالحج مع العمرة، أو أحرم بالعمرة، ثم أدخل عليها الحج، بأنه في كلاهما قارن باتفاق الأئمة‏.‏

وأما المتمتع التمتع الخاص، فإنه يؤخر إحرامه بالحج إلى ما بعد /قضاء العمرة‏.‏ ومعلوم حينئذ أن تقديم الإحرام بالحج أفضل من تأخيره فيكون القران أفضل لمن ساق الهدي‏.‏

الثاني‏:‏ أن القارن عنده لا يطوف بين الصفا والمروة إلا مرة واحدة، كالمفرد‏.‏ وأما المتمتع فقد اختار له أن يسعي سعيين، ونص على أنه يجزيه سعي واحد كالمفرد، والقارن، وحينئذ فيكون قد تميز بسعي زائد مستحب، لكن هو أيضا يستحب للمتمتع أن يطوف أولًا بعد عرفة طواف القدوم، فيكون المتمتع قد طاف بعد عرفة مرتين، وسعي سعيًا ثانيًا‏.‏

وأما القارن، فإنه يعمل ما يعمله المفرد، لكن كل هذا فيه نزاع، وفي مذهبه قول آخر‏:‏ أن السعي الثاني واجب على المتمتع‏.‏

وقول‏:‏ إن القارن يطوف طوافين، ويسعي سعيين، كمذهب أبي حنيفة‏.‏

وقول‏:‏ إن المتمتع لا يستحب له طواف القدوم، وهذا هو الصواب، بل ولا يستحب له سعي ثان‏.‏ فإن الصحابة الذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يسعوا إلا مرة واحدة، وبهذا يظهر فضل القارن إذا ساق الهدي، على المتمتع الغير السائق‏.‏

وأما إذا حصل في عمل المتمتع زيادة سعي واجب، أو مستحب،/ أو زيادة طواف مستحب، فقد يقال‏:‏ إنه أفضل من هذا الوجه، لكن هو خلاف سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأيضًا، فلو سلم استحباب ذلك، لم يسلم أن كلما زاد عملا كان أفضل، بل الأفضل قد يكون هو الأيسر، كما أن التمتع أفضل من الإفراد، وهو أيسر، والفطر في السفر أفضل، وهو أيسر، وكذلك القصر أفضل من التربيع، وهو أيسر‏.‏

وقد يفضل المتمتع بأن طوافه الأول يكون واجبا؛ لأنه طواف عمرة، والقارن يكون طوافه طواف قدوم، وهو لا يجب‏.‏ والواجب أفضل وهذا ممنوع‏.‏ فإن الفضل بحسب كثرة مصلحة الفعل، والوجوب سبب حصول مفسدة في الترك‏.‏

ولم يختلف كلام أحمد أن من لم يسق الهدي، وقدم في أشهر الحج، فالتمتع أفضل له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذين حجوا معه جميعهم أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي‏.‏

ومذهب أحمد ـ أيضًا ـ أنه إذا أفرد الحج بسفرة، والعمرة بسفرة، فهذا الإفراد أفضل له من التمتع‏.‏ نص على ذلك في غير موضع‏.‏

وذكره أصحابه؛ كالقاضي أبي يعلى في تعليقه، وغيره، وكذلك /مذهب سائر العلماء حتي أصحاب أبي حنيفة، فإنهم نصوا على أن العمرة الكوفية أفضل من القِران، مع أن القران عندهم أفضل‏.‏

لكن القران الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم ليس هو القران الذي يقوله أبوحنيفة، فإن النبي صلى الله عليه وسلملم يطف إلا طوافا واحدًا، ولم يسع إلا سعيًا واحدًا‏.‏

ومذهب أبي حنيفة أن القارن يطوف أولا، ويسعي للعمرة، ثم يطوف ويسعي للحج، وإذا فعل محظورًا كان عليه جزاءان للحج والعمرة، وقد حكي هذا رواية عن أحمد، وأن القارن يلزمه طوافان، وسعيان كمذهب أبي حنيفة، لكن مذهبه المنصوص عنه في غير موضع المعروف كمذهب مالك، والشافعي، وغيرهما، أنه ليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد‏.‏

بل أبلغ من ذلك أن المتمتع هل يجزيه السعي الأول الذي مع طواف العمرة، أو يحتاج إلى سعي ثان عقيب طواف الإفاضة، أو غيره، على قولين عن أحمد‏.‏

والمشهور عند أصحابه هو الثاني، والأول قد نص عليه أيضًا‏.‏ قال عبد اللّه بن أحمد‏:‏ قلت لأبي‏:‏ المتمتع يسعي بين الصفا والمروة‏.‏ قال‏:‏/ إن طاف طوافين فهو أجود، وإن طاف طوافًا واحدًا فلا بأس‏.‏

قال‏:‏ وإن طاف طوافين فهو أعجب إلى، واحتج بحديث جابر وكذلك نقل عنه ابن منصور‏.‏ وإنما اختلف مذهبه في ذلك، لاختلاف الأحاديث في ذلك‏.‏

ففي صحيح مسلم عن جابر‏.‏ قال‏:‏ لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدًا، طوافه الأول‏.‏ وهذا مع أنهم كانوا متمتعين‏.‏

وروي أحمد قال‏:‏ ثنا الوليد بن مسلم، قال‏:‏ ثنا الأوزاعي، عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان يقول‏:‏ القارن والمتمتع والمفرد يجزيه طواف بالبيت، وسعي بين الصفا والمروة‏.‏

وفي الصحيحين عن عائشة قالت‏:‏ خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من كان معه هدي فليهل بالحج، والعمرة، ثم لا يحل حتي يحل منهما جميعًا‏)‏‏.‏ إلى أن قالت‏:‏ فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من مني لحجهم، وأما الذين كانوا جمعوا بين الحج والعمرة /فإنما طافوا طوافا واحدًا بالبيت‏.‏

قلت‏:‏ فقولها‏:‏ ‏[‏طوافا آخر‏]‏ إنما أرادت به الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة‏.‏ كذكرها في أول الحديث، ولأن الذين جمعوا بين الحج والعمرة لابد لهم من طواف الإفاضة، فعلم أنها إنما نفت طوافا معه الطواف بين الصفا والمروة، لا الطواف المجرد بالبيت، والذي نفته عن القارن أثبتته للمتمتع الذي أحرم بالعمرة، ولم يدخل عليها الحج‏.‏

وأحمد في بعض روايته فهم من هذا أنهم طافوا بالبيت فقط للقدوم، فاستحب للمتمتع أولا إذا رجع من مني أن يطوف أولا للقدوم ثم يطوف طواف الفرض‏.‏

ومن رد على أحمد حجته بأن المراد بالطواف طواف الفرض، فقد غلط؛ لأن طواف الفرض مشترك بين المتمتع والمفرد والقارن‏.‏ وعائشة أثبتت للمتمتع ما نفته عن القارن‏.‏

ولكن المراد بهذا الحديث الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة، إن لم تكن أرادت الطواف بالبيت؛ لأنها هي لم تطف بالبيت إلا مرة واحدة؛ لأجل حيضها‏.‏ وهذا قد عارضه حديث جابر الصحيح‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلموأصحابه ـ الذين أمرهم بأن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة ـ لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا أول مرة‏.‏ وهذا /يناقض ما فهم من حديث عائشة، فإنهم إذا لم يكونوا سعوا بعد طواف الفرض فألا يطوفوا قبله للقدوم أولي وأحري‏.‏

وفي ترجيح أحد الحديثين كلام ليس هذا موضع بسطه، فإن المحققين من أهل الحديث يعلمون أن هذه الزيادة في حديث عائشة، هي من كلام الزهري ليست من قول عائشة، فلا تعارض الحديث الصحيح‏.‏

وقد روي البخاري تعليقًا عن ابن عباس، مثل حديث عائشة‏.‏ وفيه أيضًا علة‏.‏

والشافعي اختار التمتع تارة، واختار الإفراد تارة‏.‏ ومن قال‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم إحرامًا مطلقًا فقد غلط، واختلف كلامه في إحرام النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأقوال الثلاثة‏.‏

ومالك يختار الإفراد، لكن قد قيل‏:‏ يستحب مع ذلك تأخير العمرة إلى المحرم، فأما العمرة عقيب الحج من مكة كما يفعله كثير من الناس اليوم‏:‏ فهذا لم يعرف على عهد السلف، ولا نقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من الذين حجوا معه أنهم فعلوا ذلك، إلا عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ لأنها كانت قدمت متمتعة فحاضت، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تحرم بالحج، وتدع العمرة‏.‏

/فمذهب أحمد ومالك والشافعي أنها صارت قارنة، ولا يجب عليها قضاء تلك العمرة، لكن أحمد في إحدى الروايتين عنه جعل القضاء واجبًا عليها لوجوب العمرة عنده في المشهور عنه، وكون عمرة القارن والعمرة من أدني الحل لا يسقط وجوب العمرة عنده في إحدى الروايتين‏.‏

وهكذا يقولون في كل متمتع ضاق عليه الوقت فلم يتمكن من الطواف قبل التعريف، فإنهم يأمرونه بإدخال الحج على العمرة، ويصير قارنا كالمفرد الذي قدم وقد ضاق عليه الوقت، فإنه يقف بعرفة أولا ولا يطوف قبل التعريف‏.‏

وهكذا يصنع حاج العراق إذا قدموا متأخرين، فإنهم يوافون عرفة يوم التعريف، فيعرفون ولا يطوفون قبل التعريف‏.‏ ومذهب أبي حنيفة أن عائشة رفضت العمرة، وأهلت بالحج فصارت مفردة‏.‏

وعنده يجب عليها قضاء العمرة التي رفضتها، وبني ذلك على أصله‏:‏ في أن القارن يطوف طوافين، ويسعي سعيين، فلم يكن في القران لها فائدة‏.‏

وأما الجمهور فبنوه على أصولهم‏:‏ في أن عمل القارن لا يزيد على عمل المفرد، وقالـوا‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعمر عائشة /تطييبًا لنفسها؛ لأنها قالت‏:‏ يذهب أصحابي بحجة وعمرة، أذهب أنا بحجة‏.‏ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يسعك طوافك بحجك وعمرتك‏)‏‏.‏ وفي رواية أهل السنن‏:‏ ‏(‏طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك‏)‏‏.‏

فلما ألحت أعمرها تطييبًا لنفسها، وأحمد في رواية الأثرم وغيره‏.‏ قال‏:‏ إن عمرة القارن، والعمرة المكية لا تجزئ عن عمرة الإسلام، واحتج بحديث عائشة لما أعمرها النبي صلى الله عليه وسلم فإنها كانت قارنة، وأعمرها بعد ذلك‏.‏ فجعل هذه العمرة واجبة في هذه الرواية‏.‏ كما قال أبو حنيفة‏.‏ لكن اختلفا في تنقيح المناط، ولم يعتمر من مكة على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلا عائشة خاصة؛ لأجل هذا العذر‏.‏

وأما عُمر النبي صلى الله عليه وسلمفإنما كانت وهو قاصد إلى مكة، فأحرم بالعمرة عام الحديبية من ذي الحليفة، وحل بالحديبية لما أحصر وصده المشركون عن البيت، والحديبية غربي جبل التنعيم حيث بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه تحت الشجرة، وصالحه المشركون‏.‏ وجبل التنعيم هو الجبل الذي عند المساجد، التي تسمي مساجد عائشة عن يمينك، وأنت داخل إلى مكة، وتلك المساجد مبنية في التنعيم، /ولم تكن هذه المساجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏‏.‏‏.‏

فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتمر من التنعيم، والتنعيم أدني الحل إلى مكة، فهو أقرب الحل إلى مكة، والمعتمر من مكة يخرج إلى الحل ليجمع بين الحل والحرم، بخلاف الحاج من مكة فإنه يخرج إلى عرفة، وعرفة من الحل، ثم اعتمر من العام القابل عمرة القضية من ذي الحليفة، ثم لما لقي هوازن بوادي حنين فهزمهم، ثم ذهب إلى الطائف فحاصرهم، ثم رجع إلى الجِعْرَانَة فقسم غنائم حنين بالجعرانة، اعتمر داخلا إلى مكة، وحنين والجعرانة والطائف كل ذلك من جهة الشرق، شرقي عرفات، فأقربها إلى عرفة الجعرانة، ثم وادي حنين، ثم الطائف‏.‏

ولم يكن يخرج هو ولا أصحابه من مكة فيعتمرون، إلا ما ذكر من حديث عائشة، فلهذا نص أحمد في غير موضع على أن أهل مكة ليس عليهم عمرة، وروي أحمد عن ابن عباس أنه قال‏:‏ يا أهل مكة، ليس عليكم عمرة، إنما عمرتكم الطواف بالبيت، فمن أبي إلا أن يعتمر فليجعل بينه وبين مكة بطن واد‏.‏ وذلك لأن الصحابة المقيمين بمكة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يعتمرون من مكة‏.‏

/والعمرة واجبة في أشهر الروايتين عن أحمد‏.‏ فمن أصحابه من جعل هذا رواية ثالثة‏.‏ فقال‏:‏ المسألة على ثلاث روايات‏:‏ رواية تجب، ورواية لا تجب، ورواية يفرق بين المكي وغيره‏.‏ وهي طريقة جدنا أبي البركات وغيره‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ أهل مكة يستثنون، فلا تجب عليهم عمرة، رواية واحدة‏.‏ وهي طريقة الشيخ أبي محمد‏.‏ وهي أصح‏.‏

ومن الفقهاء‏:‏ من استحب لمن اعتمر من مكة أن يحرم من الحديبية، أو الجِعْرَانة، محتجًا بعمرة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهو غلط، فإن الحديبية كانت موضع حله لما أحصر، لم تكن موضع إحرامه‏.‏ وأما الجعرانة فإنه أحرم منها داخلا إلى مكة؛ لأنه أنشأ العمرة من هناك؛ ولهذا كان أصح الوجهين لأصحابنا، وهو المنصوص عن أحمد أنه لا يستحب الإكثار من العمرة لا من مكة ولا غيرها، بل يجعل بين العمرتين مدة ولو أنه مقدار ما ينبت فيه شعره‏.‏ ويمكنه الحلاق،وهذا لمن يخرج إلى ميقات بلده ويعتمر‏.‏

وأما المقيم بمكة فكثرة الطواف بالبيت أفضل له من العمرة المكية، كما كان الصحابة يفعلون، إذا كانوا مقيمين بمكة، كانوا يستكثرون من الطواف، ولا يعتمرون عمرة مكية، فالصحابة الذين استحبوا الإفراد /كعمر بن الخطاب، وغيره إنما استحبوا أن يسافر سفرًا آخر للعمرة؛ ليكون للحج سفر على حدة، وللعمرة سفر على حدة‏.‏

وأحمد وأبو حنيفة وغيرهما اتبعوا الصحابة في ذلك، واستحبوا هذا الإفراد على التمتع والقران‏.‏

قال أبو بكر الأثرم‏:‏ قيل لأبي عبد اللّه‏:‏ فأي العمرة عندك أفضل‏؟‏ قال‏:‏ أفضل العمرة عندي أن تكون في غير أشهر الحج، كما قال عمر، فإن ذلك أتم لحجكم، وأتم لعمرتكم، أن تجعلوها في غير أشهر الحج‏.‏ قيل لأبي عبد الله‏:‏ فأنت تأمر بالمتعة، وتقول‏:‏ العمرة في غير أشهر الحج أفضل‏؟‏ فقال‏:‏ إنما سئلت عن أتم العمرة، فقلت‏:‏ في غير أشهر الحج، وقلت‏:‏ المتعة تجزيه من عمرته، فأتم العمرة أن تكون في غير أشهر الحج‏.‏

وقال‏:‏ على بن تمام‏:‏ العمرة أن تقدم من دويرة أهلك، وكان سفيان بن عيينة يفسره أن ينشئ لها سفرًا يقصد له، ليس أن تحرم من أهلك، حتي تقدم الميقات‏.‏

وقـال عمر في العمـرة‏:‏ مـن دويرة أهـلك‏.‏ قيل لأبي عبد اللّه‏:‏ فيجعـل للحج سفـرًا على حـدة، وللعمرة سفرًا على حدة، قال‏:‏ نعم‏.‏ قلت له‏:‏ فإن اعتمر في غير أشهر الحج، ثم أقام بمكة حتي يحج، أيكون هذا قد /جعل له سفرًا على حدة، وللحج سفرًا على حـدة‏؟‏ فقال‏:‏ لا، حتي يرجع ثم يحـج‏.‏ فهذا مـد للعمرة مـن أهله، وقصد للحج مـن أهله، هذا معناه‏.‏

قيل لأبي عبد اللّه‏:‏ فإنهم يحكون عنك أنك تقول‏:‏ المتعة أفضل من غيرها، فقال‏:‏ أما أفضل من الحج وحده، فليس فيه شك، ثم قال‏:‏ أيما أفضل أن يجيء بعمرة وحج أو أن يجيء بحج وحده‏؟‏ هي أفضل من إفراد الحج‏.‏

قلت له‏:‏ وأفضل من القران؛ لأنه جاء بكل واحد على حدة، فهو أفضل من أن يجمع بينهما، فقال نعم، وأفضل من القران، ثم قال نحو ما قلت‏.‏

وقال الأثرم‏:‏ سمعت أبا عبد اللّه يقول‏:‏ التمتع أحب إلى، هو آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏(‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت كما صنعتم‏)‏، وقوله لأصحابه‏:‏ ‏(‏حلوا‏)‏ وما جاء فيها من الحديث‏.‏

وقال أيضًا‏:‏ قيل لأبي عبد اللّه‏:‏ أنت تذهب إلى المتعة‏.‏ فقال‏:‏ هي أحب إلى، وأفضل‏.‏ وذاك أنَّا نذهب إلى أن العمرة واجبة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ ، ثم قال‏:‏ هذا بين‏.‏

/وكان ابن عباس وابن عمر يريانها واجبة،وقال ابن عباس‏:‏ واللّه إنها لقرينتها في كتاب اللّه، وقال جماعة‏:‏ الحج الأصغر العمرة، فإذا وقع عليها اسم الحج، فهذا يدل على أنها فريضة، فإذا خرج متمتعًا فقد أجزأه من حجه وعمرته، جاء بعمرة مفردة، وحجة مفردة‏.‏

فـأما عمرة المحـرم فليس بمجزي عنه عندي، وليست بعمرة تامة، إنما هي من أربعة أميال‏.‏

وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعائشة‏:‏ ‏(‏إنما هي على قدر نصبك ونفقتك‏)‏، ومعني عمرة المحرم‏:‏ أنهم كانوا يخرجون في المحرم من مكة ليعتمرون من أدني الحل إلى أن يعتمر، فكيف من اعتمر في ذي الحجة من مكة عقيب الحج، وهذا لم يكن السلف يفعلونه‏.‏

فإذا تبين أن العمرة المكية عقب الحج مع الحج، لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق العلماء، ولا أحد من الصحابة إلا عائشة، ولا كان خلفاؤه الراشدون يفعلونها ـ امتنع أن يكون ذلك أفضل‏.‏

وأما من قال من الفقهاء‏:‏ الإفراد أن يحج، ويعتمر عقب ذلك من مكة، فهذا غالط، بإجماع العلماء، فإنه لا نزاع بينهم أن من اعتمر قبل أشهر الحج، ورجع إلى بلده ثم حج، أو قام بمكة حتي يحج من /عامه، أنه مفرد للحج، وكذلك لو اعتمر بعد الحج في سفرة أخـري، فإنـه مفرد بالاتفاق، وهـذا الإفـراد هـو الذي استحبـه الصحابـة،وهـو مستحب ـ أيضا ـ عند أحمد وغيره، فإن الاعتمار في رمضان، والإقامة إلى أن يحج أفضل من التمتع، وإن كان الرجوع إلى بلده ثم السفر للحج أفضل منها‏.‏

والتمتع جائز باتفاق أهل العلم، وإنما كان طائفة من بني أمية وغيرهم يكرهونه‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن الذين كرهوا ذلك إنما كرهوا فسخ الحج إلى التمتع، فإن الناس يقدمون من الآفاق فيحرمون بالحج، فمن جوز الفسخ جوز لهم المتعة ومن منع من ذلك منعهم منه‏.‏

والفسخ فيه ثلاثة أقوال معروفة؛ قيل‏:‏ هو واجب، كقول ابن عباس وأتباعه، وأهل الظاهر والشيعة‏.‏

وقيل‏:‏ هو محرم، كقول معاوية، وابن الزبير، ومن اتبعهما كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي‏.‏

وقيل‏:‏ هو جائز مستحب، وهو مذهب فقهاء الحديث، أحمد وغيره، والأمر به معروف عن غير واحد من الصحابة، والتابعين؛ /ولهذا كان ابن عمر وابن عباس يأمران بالمتعة‏.‏

قال أحمد‏:‏ أخبرنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر عن الزهري عن سالم قال‏:‏ سئل ابن عمر عن متعة الحج، فأمر بها، فقيل له‏:‏ إنك تخالف أباك، فقال‏:‏ عمر لم يقل الذي تقولون، إنما قال عمر‏:‏ إفراد الحج من العمرة، فإنها أتم للعمرة، أو أن العمرة لا تتم في أشهر الحج إلا أن يهدي، وأراد أن يزار البيت في غير أشهر الحج، فجعلتموها أنتم حراما، وعاقبتهم الناس عليها، وقد أحلها اللّه، وعمل بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ فإذا أكثروا عليه قال‏:‏ أفكتاب اللّه أحق أن تتبعوا، أم عمر ‏؟‏‏!‏ وكان ابن عباس يأمر بها، فيقولون‏:‏ إن أبا بكر وعمر لم يفعلاها، فيقول‏:‏ يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم، وتقولون‏:‏ قال أبو بكر وعمر‏!‏

وكان عروة بن الزبير يناظر ابن عباس فيها، فقال‏:‏ إن أبا بكر وعمر أعلم برسول اللّه صلى الله عليه وسلم منك، فقال له ابن عباس‏:‏ ياعرية، سل أمك، يعني‏:‏ أنها تخبره، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالإحلال، وكانت أسماء ممن أحلت‏.‏

وهذه المشاجرة إنما وقعت؛ لأن ابن عباس كان يوجب المتعة، /بل كان يوجب الفسح، وكان يقول‏:‏ كل من طاف بالبيت وبين الصفا والمروة ولم يسق الهدي، فقد حل من إحرامه‏.‏ ويحتج بأمر النبي صلى الله عليه وسلملأصحابه بالتحلل في حجة الوداع، وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 33‏]‏ ‏.‏

وإيجاب المتعة هو قول طائفة من أهل الحديث، والظاهرية؛ كابن حزم وغيره، وهو مذهب الشيعة أيضا، لكن الجماهير من الصحابة، والأئمة الأربعة، وغيرهم، على أنه يجوز التمتع، والإفراد، والقران، لكن أهل مكة وبنو هاشم وعلماء أهل الحديث يستحبونها، فاستحبها علماء سنته، وأهل سنته، وأهل بلدته التي بقربها المناسك، وهؤلاء الثلاثة أخص الناس به، وهو أحد قولي الشافعي‏.‏

وأبو يوسف يجعل التمتع والقران سواء‏.‏ وإنما جوز الجمهور الثلاثة؛ لأنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلمأنه قال لأصحابه‏:‏ ‏(‏من شاء منكم أن يهل بعمرة فليفعل، ومن شاء منكم أن يهل بحجة فليفعل، ومن شاء منكم أن يهل بحجة وعمرة فليفعل‏)‏‏.‏

وأما أمره لأصحابه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي، فلأنه أراد أن يجمعوا بين الحج والعمرة، وألا يعتمروا عمرة مكية، وإن سافروا سفرًا /آخر للعمرة‏.‏ ومن كان هذه حاله فينبغي له أن يتمتع، فالتمتع كان متعينًا في حق الصحابة‏.‏

إذا أرادوا أن يفعلوا الأفضل لهم، وكان أولا قد أذن لهم في الفسخ، ولم يأمرهم به، لاسيما إذا قيل بوجوب العمرة، فإنه يجب التمتع على من لم يسافر سفرة أخرى ولم يعتمر عقب الحج من مكة، وعمرة المتمتع بمنزلة التوضؤ للمغتسل، فالمغتسل للجنابة إذا توضأ كان وضوؤه بعض اغتساله الكامل، كذلك عمرة المتمتع عند أحمد بعض حجه الكامل؛ ولهذا يجوز عنده للمتمتع أن يصوم الأيام الثلاثة من حين يحرم بالعمرة، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏196‏]‏ فهو من حين أحرم بالعمرة دخل في الحج، كما أن المغتسل من حين توضأ دخل في الغسل‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه‏)‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏ يدخل فيه المتمتع من حين يحرم بالعمرة‏.‏

ولهذا كان أحمد ينكر على من يقول‏:‏ إن حجة المتمتع حجة مكية‏.‏ قال الأثرم‏:‏ سمعت أبا عبد اللّه يقول‏:‏ كان ابن المبارك ـ زعموا ـ يقول بالمتعة، فقيل له‏:‏ يكون مجيؤه حينئذ للعمرة‏.‏ فقال‏:‏ أرأيتم لو /أن رجلا خرج يريد صلاة الظهر في جماعة، فتطوع قبلها بأربع ركعات، ثم صلى الظهر، أزاده ذلك خيرًا، أم نقصه ‏؟‏

ثم قال أحمد‏:‏ ما أحسن ما قال ‏!‏ ثم قال أبو عبد اللّه‏:‏ يقول مجيؤه حينئذ للظهر، أو للتطوع، أي إنما مجيؤه للظهر، قال أبو عبد اللّه‏:‏هذا قول محدث، يعني‏:‏ قولهم‏:‏ حجة مكية‏.‏

قال‏:‏ وسمعت أبا عبد اللّه مرة أخرى وذكر قول ابن المبارك‏:‏ إنه قول محدث، يعني‏:‏ قولهم‏:‏ حجة مكية‏.‏

قيل لأبي عبد اللّه‏:‏ قول عبد اللّه قول محدث‏؟‏ ‏!‏ قال‏:‏ إي واللّه قول محدث، كلام بغيض، ما أدري ما هو، وكيف لا يكون محدثا ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعلم به، ويأمر به أصحابه ‏؟‏‏!‏ وغلظ القول فيه‏.‏

قال‏:‏ وسمعت أبا عبد اللّه مرة أخري‏.‏ قيل له‏:‏ من قال‏:‏ حجة مكية‏؟‏ قال‏:‏ هذا قول محدث، قيل له‏:‏ عمن يروي‏؟‏ فقال‏:‏ عن الشعبي، وسعيد بن جبير‏.‏

/ فصل

والدليل على أنه قد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم/‏:‏ أنه أمر أصحابه في حجة الوداع ـ لما طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة ـ أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي، فإنه أمره أن يبقي على إحرامه، حتي يبلغ الهدي محله‏.‏

ولهذا لما قال سلمة بن شَبِيب لأحمد‏:‏ يا أبا عبد اللّه، قويت قلوب الرافضة، لما أفتيت أهل خراسان بالمتعة‏.‏ فقال‏:‏ ياسلمة، كان يبلغني عنك أنك أحمق، وكنت أدافع عنك، والآن فقد تبين لي أنك أحمق، عندي أحد عشر حديثا صحيحًا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أدعها لقولك‏؟‏‏!‏ فبين أحمد أن الأحاديث متواترة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمتع لجميع أصحابه، الذين لم يسوقوا الهدي، حتي من كان منهم مفردًا، أو قارنًا، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينقلهم من الفاضل إلى المفضول، بل إنما يأمرهم بما هو أفضل لهم‏.‏

ولهذا كان فسخ الحج إلى التمتع مستحبًا عند أحمد، ولم يجعل اختلاف العلماء في جواز الفسخ موجبًا للاحتياط بترك الفسخ، فإن الاحتياط إنما يشرع إذا لم تتبين سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فإذا تبينت السنة فاتباعها أولي‏.‏وإن كان بعض العلماء قد قال‏:‏ إنه لا يجوز ذلك، لا سيما وآخرون من السلف والخلف قد أوجبوا الفسخ فليس الاحتياط بالخروج من خلاف أولئك بأولي من الخروج من خلاف هؤلاء‏.‏

/والذين منعوا الفسخ، أو المتعة مطلقًا، قالوا‏:‏ كان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلمخاصة‏.‏ قالوا‏:‏ لأن أهل الجاهلية كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج‏.‏ ويقولون‏:‏ إذ بَرَأ الدَّبَر، وعَفَا الأثَر، وانسلخ صَفَر، فقد حَلَّت العمرة لمن اعتمر‏.‏ قالوا‏:‏ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالعمرة؛ ليبين جواز العمرة في أشهر الحج‏.‏ وهذا القول خطأ عند أحمد وغيره لوجوه‏:‏

أحدها‏:‏ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد اعتمر قبل ذلك عمره الثلاثة في أشهر الحج، فاعتمر عمرته الأولي عمرة الحديبية في ذي القعدة، واعتمر عمرة القضية في ذي القعدة، واعتمر من الجِعْرَانة في ذي القعدة‏.‏ وقد ثبت في الصحيح أن عائشة قيل لها‏:‏ إن ابن عمر يقول‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب، فقالت‏:‏ يغفر اللّه لأبي عبد الرحمن ‏!‏ ما اعتمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في رجب قط، وما اعتمر إلا وابن عمر معه‏.‏ وقد اتفق أهل العلم على ما قالت عائشة‏:‏ بأن عمره كلها كانت في ذي القعدة، وهو أوسط أشهر الحج‏.‏ فكيف يقال‏:‏ إن الصحابة لم يعلموا جواز العمرة في أشهر الحج حتي أمرهم بالفسخ، وقد فعلها قبل ذلك ثلاث مرات ‏؟‏‏!‏

الوجه الثاني‏:‏ أنه قد ثبت في الصحيحين عن عائشة أنه قال لهم عند الميقات‏:‏ ‏(‏من شاء أن يهل بعمرة وحجة فليفعل‏)‏‏.‏ فبين لهم جواز /الاعتمار في أشهر الحج عند الميقات، وعامة المسلمين معه، فكيف لم يعلموا ذلك‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أنه أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل، وأمر من ساق الهدي أن يتم على إحرامه حتي يبلغ الهدي محله، ففرق بين محرم ومحرم، فهذا يدل على أن سوق الهدي هو المانع من التحل لإحرامه الأول‏.‏ وما ذكره يشترك فيه السائق‏.‏‏.‏ أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني، قال‏:‏ فقام النبي صلى الله عليه وسلم فينا فقال‏:‏ ‏(‏قد علمتم أني أتقاكم للّه، وأصدقكم وأبركم، ولولا هديي لحللت كما تحلون، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، فحلوا‏)‏‏.‏ فحللنا، وسمعنا، وأطعنا‏.‏ فقدم على من سعايته، فقال‏:‏ ‏(‏بما أهللت‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ بما أهل به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقـال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فاهد وامكث حرامًا‏)‏‏.‏ قال‏:‏ وأهدي على له هديا، فقال سراقة بن مالك بن جُعْشُم‏:‏ لعامنا هذا أم للأبد‏؟‏ فقال‏:‏‏(‏بل للأبد‏)‏‏.‏ وفي رواية البخاري‏:‏ وأن سراقة بن مالك بن جُعْشُم لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة، وهويرميها، فقال جعشم‏:‏ ألكم هذه خاصة يارسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا بل للأبد‏)‏‏.‏

فبين أن تلك العمرة التي فَسَخ من فَسَخ منها حجه إليها للأبد،/ وأن العمرة دخلت في الحج إلى يوم القيامة، وهذا يبين أن عمرة التمتع بعض الحج، ولم يرد السائل بقوله‏:‏ عمرتنا هذه لعامنا هذا، أم للأبد‏؟‏ أنه يسقط الفرض بها في عامنا هذا؛ لأن العمرة إن كانت واجبة فلا تجب إلا مرة واحدة، ولأنه لو أراد ذلك لم يقل بل للأبد، فإن الأبد لا يكون في حق طائفة معينة، بل إنما يكون لجميع المسلمين، ولا قال‏:‏ ‏(‏دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة‏)‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏دخلت العمرة في الحج‏)‏ أراد به جواز العمرة في أشهر الحج‏؟‏

قيل‏:‏ نعم‏.‏ ومن ذلك عمرة الفاسخ، فإنها سبب هذا اللفظ، وسبب اللفظ العام لا يجوز إخراجه منه، فعلم أن قوله‏:‏ ‏(‏دخلت العمرة في الحج‏)‏ يتناول عمرة الفاسخ، وأنها دخلت في الحج إلى يوم القيامة‏.‏

الوجه السادس‏:‏ أن يقال‏:‏ فسخ الحج إلى التمتع موافق لقياس الأصول لا مخالف له، فإن المحرم إذا التزم أكبر ما لزمه جاز باتفاق الأئمة فلو أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج جاز بلا نزاع، وأما إذا أحرم بالحج، ثم أدخل عليه العمرة، لم يجز عند الجمهور وهو مذهب أحمد ومالك، وظاهر مذهب الشافعي‏.‏ وأما أبو حنيفة فيجوزه؛ لأنه يصير قارنًا، والقارن عنده يلزمه طوافان، وسعيان، وهذا قياس الرواية المحكية عن أحمد في القارن‏.‏

/وإذا كان كذلك فالمحرم بالحج لم يلزمه إلا الحج، فإذا صار متمتعًا صار ملتزمًا لعمرة وحج، فكان ما التزمه بالفسخ أكبر مما كان عليه، فجاز ذلك، وهو أفضل، فاستحب ذلك، وإنما يشكل هذا على من يظن أنه فسخ حجًا إلى عمرة مجردة، وليس كذلك، فإنه لو أراد أن يفسخ الحج إلى العمرة مفردة، لم يجز بلا نزاع، وإنما الفسخ جائز لمن كان نيته أن يحج بعد العمرة‏.‏

وقد قدمنا أن المتمتع من حين يحرم بالعمرة دخل في الحج، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏دخلت العمرة في الحج‏)‏؛ ولهذا يجوز أن يصوم الأيام الثلاثة من حينئذ، وإنما إحرامه بالحج بعد ذلك، كما كان النبي صلى الله عليه وسلمإذا اغتسل للجنابة بدأ بالوضوء،وكما قـال للنسوة في غسل ابنته‏:‏ ‏(‏ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها‏)‏‏.‏ فكان غسل مواضع الوضوء توضية، وهو بعض الغسل‏.‏

فإن قيل‏:‏ دم المتمتع دم جُبْران، ونُسُك لا جبران فيه أفضل من نسك مجبور‏.‏ قيل‏:‏ هذا لا يصح لوجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل من هديه فإنه أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر فأكل من لحمها، وشرب من مرقها‏.‏ وثبت أنه كان متمتعًا التمتع العام، فإن /القارن يدخل في مسمي المتمتع، كما سنذكره‏.‏ فدل على استحباب الأكل من هدي المتمتع، ودم الجبران ليس كذلك‏.‏ وثبت ـ أيضًا ـ في الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم أطعم نساءه من الهدي الذي ذبحه عنهن، وكن متمتعات‏.‏ وهذا مما احتج به الإمام أحمد‏.‏

الثاني‏:‏ أن سبب الجبران محظور في الأصل، كالإفساد بالوطء، وكفعل المحظورات، أو بترك الواجبات، فإنه لا يجوز له أن يفسد حجه، ولا أن يفعل المحظور إلا لعذر، ولا يترك الواجب إلا لعذر، والتمتع جائز مطلقًا، فلو كان دمه دم جبران لم يجز مطلقًا، فعلم أنه دم نسك وهدي، وأنه مما وسع الله به على المسلمين، فأباح لهم التحلل في أثناء الإحرام، والهدي مكانه، لما في استمرار الإحرام من المشقة، فيكون بمنزلة قصر الصلاة في السفر، وبمنزلة الفطر للمسافر، والمسح على الخفين للابس الخف‏.‏

فإن ذلك أفضل له من أن يخلع ويغسل في ظاهر مذهب أحمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلمإذا كان لابس الخف على طهارة مسح عليه، ولم يكن يخلع ويغسل، بخلاف ما إذا لم تكن رجلاه في الخفين، فإنه كان يغسل‏.‏ وقد ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول في خطبته‏:‏ ‏(‏خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد‏)‏‏.‏ /وهدي محمد لمن كان مكشوف الرجلين أن يغسلهما‏.‏ لا يقصد أن يلبس ليمسح عليهما، ولمن كان لابس الخفين أن يمسح عليهما، لا أن يخلعهما ويغسل، مع أن مسح الخفين بدل، فكذلك الهدي‏.‏

وإن كان بدلًا عن ترفهه بسقوط أحـد السفرين، فهـو أفضـل لمن جمع بينهمـا، وقـد قدم في أشهر الحج من أن يأتي بحج مفرد يعتمر عقبه والبدل قد يكون واجبًا كالجمعة، فإنها وإن كانت بدلًا عن الظهـر فهي واجبة، وكالمتيمم العاجز عن استعمال الماء؛ فإن التيمم واجب عليه، وهو بدل‏.‏ فإذا جاز أن يكون البدل واجبًا، فكونه مستحبًا أولي بالجواز‏.‏

ولهذا يستحب للمسافر أن يفطر ويقضي، والقضاء بدل عن الأداء وكذلك المريض الذي يشق عليه الصوم يفطر ويقضي، والقضاء بدل‏.‏

وتخلل الإحلال لا يمنع أن يكون الجميع بمنزلة العبادة الواحدة، كطواف الفرض؛ فإنه من تمام الحج باتفاق المسلمين، ولا يفعل إلا بعد التحلل الأول، ورمي الجمار أيام مني من تمام الحج‏.‏ وإذا طاف قبل ذلك فقد رمي الجمار أيام مني، بعد الحل التام، وهو السنة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وشهر رمضان يتخلل صيام أيامه/الفطر بالليل، وهو الصوم المفروض المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عليكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 183، 185‏]‏ ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه‏)‏‏.‏ وهذا الصوم يتخلله الفطر كل ليلة، فكذلك قوله‏:‏ ‏(‏من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه‏)‏‏.‏

والآية تتناول لمن حج حجة تمتع فيها بالعمرة، وإن كان قد يتخلل هذا الإحرام إحلال، وهو من حين إحرامه بالحج قد دخل في الحج، كما أنه بصيام أول يوم دخل في صيام شهر رمضان، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه‏)‏، والقيام يتخلله السلام من كل ركعتين، وكذلك الوتر بثلاث مفصولة‏.‏

 

فصل

في صفة حجة الوداع

لم يختلف أحد من أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه إذا طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها عمرة، وهذا مما تواترت به الأحاديث، /ولم يختلفوا أنه لم يعتمر بعد الحج، لا النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من الصحابة إلا عائشة، فهذا كله متفق عليه لم يختلف فيه النقل، ولا خالف فيه أحد من أهل العلم‏.‏

ولكن تنازعوا‏:‏ هل حج متمتعًا، أو مفردًا، أو قارنًا‏؟‏ أو أحرم مطلقًا‏؟‏ واضطربت عليهم فيه الأحاديث، وهي ـ بحمد الله ـ غير مختلفة عند من فهم مراد الصحابة بها‏.‏

والمنصوص عن الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنًا بين العمرة والحج، حتى قال‏:‏ لا أشك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، وهذا قول أئمة الحديث‏:‏ كإسحاق بن راهويه، وغيره‏.‏ وهو الصواب الذي لا ريب فيه وقد صنف أبو محمد بن حزم في حجة الوداع مصنفًا جمع فيه الآثار وقرر ذلك‏.‏

وأحمد إنما اختار التمتع؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه به، لا لكونه كان متمتعًا التمتع الخاص عنده؛ ولهذا قال في رواية المروزي‏:‏ إنه إذا ساق الهدي فالقِران أفضل‏؟‏ ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن عنده، وساق الهدي لم يكن لهذا القول وجه، فإنه لو كان متمتعًا عنده لكان قد فعلها وأمر بها، فلا وجه حينئذ لاختيار القران لمن ساق الهدي‏.‏

/ولم يقل أحد من قدماء أصحاب أحمد أنه كان متمتعا التمتع الخاص، وأول من ادعى من أصحاب أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعًا التمتع الخاص ـ فيما علمناه ـ القاضي أبويعلى، وذكر في تعليقه الاحتجاج بهذه الطريقة على فضيلة التمتع، وذكر أن الأولي ـ وهي أن الاحتجاج بأمره لا بفعله، وبقوله‏:‏ ‏(‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت‏)‏ ـ هي طريقة الأصحاب، كما كان يحتج بها إمامهم أحمد‏.‏

ثم إن الذين نصروا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعًا، من الأصحاب، على قولين‏:‏

الأول‏:‏ أنه حل من إحرامه مع سوقه الهدي، وحمل هؤلاء رواية من روي أن المتعة كانت لهم خاصة، على أنهم خصوا بالتحلل من الإحرام مع سوق الهدي، دون من ساق الهدي من الصحابة، وهذه طريقة القاضي ومن اتبعه‏.‏ وهذا الذي قاله هؤلاء منكر عند جماهير أهل العلم، وممن أنكر ذلك على القاضي الشيخ أبوالبركات، وغيره‏.‏ وقالوا‏:‏ من تأمل الأحاديث المستفيضة تبين له أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل هو، ولا أحد ممن ساق الهدي‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع، بمعني أنه أحرم بالعمرة ولم يحل من إحرامه؛ لكونه ساق الهدي، وأحرم بالحج /بعد أن طاف وسعي للعمرة وهذه طريقة الشيخ أبي محمد، وغيره‏.‏ وهؤلاء يسمون هذا متمتعا، وقد يسمونه قارنا، لكونه أحرم قبل التحلل من العمرة، لكن القران المعروف أن يحرم بالعمرة قبل أن يطوف بالبيت ليقع الطواف عن العمرة والحج‏.‏

والفرق بين القارن والمتمتع الذي ساق الهدي يظهرمن وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ من الإحرام بالحج قبل الطواف‏.‏

والثاني‏:‏ من السعي عقب طواف الإفاضة، فإن القارن ليس عليه سعي ثان، كما ليس ذلك على المفرد‏.‏ وأما المتمتع فهذا السعي واجب في حقه عند أكثر العلماء وفيه عند أحمد روايتان‏.‏

وأما الشافعي، فاختلف كلامه في حج النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال تارة‏:‏ إنه أفرد‏.‏ وقال تارة‏:‏ إنه تمتع‏.‏ وقال تارة‏:‏ إنه أحرم مطلقا‏.‏ فقال في ‏[‏مختصر الحج‏]‏ ‏:‏ وأحب إلى أن يفرد؛ لأن الثابت عندنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد‏.‏ وقال في ‏[‏اختلاف الأحاديث‏]‏ ‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ومن قال‏:‏ إنه أفرد الحج، يشبه أن يكون قاله على ما يعرف من أهل العلم ـ الذين أدرك، دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أن /أحدًا لا يكون مقيما على حج إلا وقد ابتدأ إحرامه بحج، قال‏:‏ وأحسب عروة حين حَدَّث أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بحج ذهب إلى أنه سمع عائشة تقول‏:‏ يفعل في حجه على هذا المعني‏.‏

فقد بين الشافعي هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعًا، وأن من قال‏:‏ أفرد الحج، فلأنه لما رأي أن من استمر على إحرامه لا يكون إلا حاجا، والنبي صلى الله عليه وسلم لما استمر على إحرامه ظن أنه كان حاجًا‏.‏

وقال ـ أيضا ـ فيما اختلف فيه من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مخرجه‏:‏ ليس شيء من الاختلاف أبين من هذا، وإن كان الغلط فيه قبيحا من جهة أنه مباح؛ لأن الكتاب، ثم السنة ثم ما أعلم فيه خلافا يدل على أن التمتع بالعمرة إلى الحج، وإفراد الحج والقران واسع كله‏.‏ قال‏:‏ وثبت أنه خرج ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء، وهو فيما بين الصفا والمروة، وأمر أصحابه أن من كان منهم أهَلَّ، ولم يكن معه هدي، أن يجعلها عمرة، وقال‏:‏ ‏(‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ فمن أين أثبت حديث عائشة، وجابر، وابن عمر، وطاوس، دون حديث من قال‏:‏ قَرَن‏.‏

/قيل‏:‏ لتقدم صحبة جابر للنبي صلى الله عليه وسلم، وحسن سياقه لابتداء الحديث، وآخره، ولرواية عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفضل حفظها عنه، وقرب ابن عمر منه‏.‏

قال‏:‏ ولأن من وصف انتظار النبي صلى الله عليه وسلم القضاء، إذ لم يحج من المدينة بعد نزول فرض الحج طلب الاختيار فيما وسع الله من الحج والعمرة، يشبه أن يكون أحفظ؛ لأنه قد أتي في المتلاعنين فانتظر القضاء، فكذلك حفظ في الحج ينتظر القضاء‏.‏

قال المزني‏:‏ إن ثبت حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قرن حتى يكون معارضًا للأحاديث سواه، فأصل قول الشافعي أن العمرة فرض، وأداء الفرض في وقت الحج أفضل من أداء فرض واحد؛ لأن من أكثر عمله لله كان أكثر في ثواب الله‏.‏

قلت‏:‏ والصواب في هذا الباب أن الأحاديث متفقة ليست مختلفة إلا اختلافا يسيرًا، يقع مثله في غير ذلك، فإن الصحابة ثبت عنهم أنه تمتع، والتمتع عندهم يتناول القران، والذين رَوَي عنهم أنه أفرد رَوَي عنهم أنه تمتع‏.‏

أما الأول‏:‏ ففي الصحيحين عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ اجتمع على وعثمان، فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال علي‏:‏ ما / يريد إلا أمرًا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه، فقال عثمان‏:‏ دعنا منك‏.‏ فقال‏:‏ إني لا أستطيع أن أدعك، فلما أن رأي على ذلك أهل بهما جميعا‏.‏ هذا لفظ مسلم‏.‏ ولم يذكر البخاري دعنا، إلى أن أدعك‏.‏ وخرجه البخاري وحده من حديث مروان بن الحكم قال‏:‏ شهدت عثمان ينهى عن المتعة، وأن يجمع بين الحج والعمرة، فلما رأي على ذلك أهل بهما‏:‏ لبيك بعمرة وحجة‏.‏ قال‏:‏ ما كنت لأدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد من الناس‏.‏

فهذا يبين أنه إذا جمع بينهما كان متمتعًا عندهم، وأن هذا هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وهو سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي فعلها على بن أبي طالب، ووافقه عثمان على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، لكن كان النزاع‏:‏ هل ذلك أفضل في حقنا، أم لا‏؟‏ وهل يشرع فسخ الحج إلى المتعة في حقنا‏؟‏ كما تنازع فيه الققهاء‏.‏

وفي الصحيح عن عبد الله بن شَقيق، قال‏:‏ كان عثمان ينهى عن المتعة وكان على يأمر بها، فقال عثمان لعلي‏:‏ كلمة، فقال‏:‏ لقد علمت أنا تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ أجل، ولكنا كنا خائفين، فقد اتفق عثمان وعلي على أنهم تمتعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأما قول عثمان ‏[‏كنا خائفين‏]‏ فإنهم كانوا خائفين في عمرة القَضِية، /وكانوا قد اعتمروا في أشهر الحج، وكان كل من اعتمر في أشهر الحج يسمي ـ أيضا ـ متمتعا؛ لأن الناهين عن المتعة كانوا ينهون عن العمرة في أشهر الحج مطلقا‏.‏

وشاهده ما في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص لما بلغه أن معاوية نهى عن المتعة، قال‏:‏ فعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كافر بالعرش‏.‏ يعني معاوية‏.‏ ومعلوم أن معاوية كان مسلمًا في حجة الوداع، بل وفي عمرة الجِعْرَانة عام الفتح، أو قبل ذلك، ولكن في عمرة القضية كافر بعرش مكة‏.‏ وقد سمي سعد عمرة القضية متعة‏.‏ فلعل عثمان أراد الخوف عام القضية، وكانوا ـ أيضا ـ خائفين عام الفتح‏.‏ وأما عام حجة الوداع فكانوا آمنين، لم يكن قد بقي مشرك، بل نفي الله الشرك وأهله؛ ولهذا قالوا‏:‏ صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في آمن ما كان الناس ركعتين، فلعله قد اشتبه حالهم هذا العام بحالهم هذا العام‏.‏ كما اشتبه على من روي أنه نهى عن متعة النساء في حجة الوداع‏.‏ وإنما كان النهي في غزاة الفتح‏.‏

وكما يظن بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة في حجة أو عمرة، وإنما كان دخوله الكعبة عام الفتح لما فتح مكة، ولم يقل أحد‏:‏ إنه دخلها في حجة، ولا عمرة‏.‏ بل في الصحيحين عن إسماعيل بن أبي خالد قال‏:‏ قلت لعبد الله بن أبي أوفي ـ من صحابة النبي /صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ أدخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت في عمرته‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏

وفي الصحيحين عن مطرف بن الشِّخِير، قال‏:‏ قال لي عمران بن حصين‏:‏ أحدثك حديثا، لعل الله أن ينفعك به‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجته وعمرته، ثم إنه لم ينه عنه حتى مات، ولم ينزل فيه قرآن يحرمه‏.‏ وفي رواية قال‏:‏ تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمتعنا معه فهذا عمران وهو من أجل السابقين الأولين، أخبر أنه تمتع وأنه جمع بين الحج والعمرة‏.‏

وفي صحيح مسلم عن غنيم بن قيس قال‏:‏ سألت سعد بن أبي وقاص عن المتعة في الحج، فقال‏:‏ فعلناها، وهذا يومئذ كافر بالعرش‏.‏ يعني بيوت مكة ـ يعني معاوية‏.‏ وهذا إنما أراد به سعد عمرة القضية، فإن معاوية لم يكن أسلم إذ ذاك‏.‏ وأما في حجة الوداع فكان قد أسلم، فكذلك في عمرة الجعرانة، فسمي سعد الاعتمار في أشهر الحج متعة؛ لأن بعض الشاميين كانوا ينهون عن الاعتمار في أشهر الحج، فصار الصحابة يروون السنة في ذلك ردًا على من نهى عن ذلك، فالقارن عندهم متمتع، ولهذا وجب عليه الهدي ودخل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ ‏.‏

وفي صحيح البخاري وغيره عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ سمعت رسول /الله صلى الله عليه وسلم وهو بواد العَقِيق‏:‏ يقول‏:‏ ‏(‏أتاني الليلة آت من ربي، فقال‏:‏ صل في هذا الوادي المبارك، وقل‏:‏ عمرة في حجة‏)‏‏.‏فهؤلاء الخلفاء الراشدون‏:‏ عمر، وعثمان، وعلي، وغير الخلفاء كعمران ابن حصين يروي عنهم بأصح الأسانيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن بين العمرة والحج، وكانوا يسمونه تمتعًا‏.‏

وفي الصحيحين عن بكر بن عبد الله المزني، عن أنس بن مالك، قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة، فحدثت بذلك ابن عمر، فقال‏:‏ لبي بالحج وحده، فلقيت أنسًا فحدثته، فقال‏:‏ ما يعدونا إلا صبيانًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لبيك عمرة وحجًا‏)‏‏.‏ فهذا أنس يخبر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعًا، وما ذكره بكر عن ابن عمر عنه، فجوابه أن الثقاة ـ الذين هم أثبت في ابن عمر من بكر،مثل ابنه سالم، رووا عنه أنه قال‏:‏ تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، وهؤلاء أثبت عن ابن عمر من بكر‏.‏ وغلط بكر على ابن عمر، أولي من تغليط سالم ابنه عنه، وتغليطه هو على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ويشبه هذا أن ابن عمر قال له‏:‏ أفرد الحج فظن أنه قال‏:‏ لبي بالحج، فإن إفراد الحج كانوا يطلقونه ويريدون به إفراد أعمال الحج، وذلك/ يرد قول من يقول‏:‏ إنه قرن فطاف طوافين، وسعي سعيين، ومن يقول‏:‏ إنه أحل من إحرامه‏.‏ فرواية من روي من الصحابة أنه أفرد الحج ترد على هؤلاء‏.‏ يبين هذا‏:‏ ما رواه مسلم في صحيحه عن نافع عن ابن عمر قال‏:‏ أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردا، وفي رواية أهل بالحج مفردا‏.‏ فلم يذكروا عن ابن عمر إلا أنه قال‏:‏ أفرد الحج، لا أنه قال‏:‏ لبي بالحج‏.‏

وفي السنن من حديث البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي‏:‏ ‏(‏قد سقت الهدي، وقرنت‏)‏‏.‏ وفي الصحيـحين من حديث الزهري عن سالم عن أبيه، عن عبد الله بن عمر، قال‏:‏ تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج،وأهدي فساق معه الهدي، من ذي الحليفة، وقد اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدي فساق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس‏:‏ ‏(‏من كان منكم أهدي فإنه لا يحل من شيء حرم منه، حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدي فليطف بالبيت، وبالصفا والمروة، وليقصر، وليتحلل، ثم ليهل بالحج، وليهدي، فمن لم يجد هديا فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة /إذا رجع إلى أهله‏)‏‏.‏ وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة فاستلم الركن أول شيء، ثم خَبَّ ثلاثة أشواط، من السبع، ومشي أربعة أطواف، ثم رجع حين قضي طوافه بالبيت، فصلي عند المقام ركعتين، ثم سلم فانصرف، فأتي الصفا فطاف بالصفا والمروة، سبعة أطواف ثم لم يتحلل من كل شيء حرم منه، حتى قضي حجه، ونحر هديه يوم النحر، وأفاض فطاف بالبيت، ثم حل من كل شيء حرم منه، وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهدي فساق الهدي من الناس‏.‏ قال الزهري‏:‏ وحدثني عروة عن عائشة مثل حديث سالم عن أبيه‏.‏

فهذا أصح حديث على وجه الأرض‏.‏ وهو من حديث الزهري ـ أعلم أهل زمانه بالسـنة ـ عن سالم، عن ابن عمر، وهو أصح من حدث ابن عمر، ومن حديث عروة عن عائشة وهو أصح من حديث عائشة، وقد ثبت عنها في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر‏:‏ الرابعة مع حجته‏.‏ ولم يعتمر بعدها باتفاق المسلمين، فتعين أن يكون قرن بين العمرة والحج، وقال‏:‏ هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكذلك أخبرت أن الذين جمعوا الحج والعمرة، إنما طافوا طوافًا واحدا‏.‏

وأما الذين نقل عنهم‏:‏ أنه أفرد الحج، فهم ثلاثة‏:‏ عائشة، وابن /عمر، وجابر‏.‏ والثلاثة نقل عنهم التمتع‏.‏ وحديث عائشة وابن عمر أنه تمتع بالعمرة إلى الحج أصح من حديثهما أنه أفرد الحج، وما صح عنهما من ذلك فمعناه‏:‏ إفراد أعمال الحج‏.‏

وفي الصحيحين عن حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع، قالت حفصة‏:‏ فما يمنعك أن تحل‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إني لَبَّدتُ رأسي، وقَلَّدت هديي، فلا أحل حتى أنحر هديي‏)‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ما شأن الناس، حلوا ولم تحل أنت من عمرتك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر الهدي‏)‏‏.‏ فهذا يدل على أنه كان معتمرًا، وليس فيه أنه لم يكن مع العمرة حاجًا‏.‏

ومما يبين ذلك أن في الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر، كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته، عمرة الحديبية في ذي القعدة، وعمرة في العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من الجِعْرانة في ذي القعدة، وعمرة مع حجته‏.‏

وفي الصحيحين عن مجاهد قال‏:‏ دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة، فقال له عروة‏:‏ يا أبا عبد الرحمن، كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ أربع عمر؛ إحداهن في رجب، فقال عروة‏:‏ ألاتسمعين يا أم المؤمنين إلى /ما يقول أبو عبد الرحمن، فقالت‏:‏ ومايقول‏؟‏ قال يقول‏:‏ اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر إحداهن في رجب، فقالت‏:‏ يرحم الله أبا عبد الرحمن‏؟‏ ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو معه، وما اعتمر في رجب قط‏.‏ فعائشة أنكرت كونه اعتمر في رجب، وما أنكرت كونه اعتمر أربع عمر‏.‏ فقد اتفقت عائشة وابن عمر على أنه اعتمر أربع عمر، كما روي ذلك عن أنس‏.‏ وقد ثبت باتفاق الناس أنه لم يعتمر بعد الحج‏.‏ وثبت أن ابن عمر وعائشة نقلا عنه أنه اعتمر مع الحج، وهذا هو التمتع العام الذي يدخل فيه القران، وهو الموجب للهدي‏.‏

فتبين أن الروايات الكثيرة الثابتة عن ابن عمر وعائشة توافق ما فعله سائر الصحابة، أنه كان متمتعا التمتع العام‏.‏

ومن قال‏:‏ إنه أحرم مطلقًا فاحتج بحديث مرسل، ومثل هذا لا يجوز أن يعارض به الأحاديث الصحيحة‏.‏

فقد تبين أن من قال‏:‏ أفرد الحج، فإن ادعي أنه اعتمر بعد الحج كما يظنه بعض المتفقهة، فهذا مخطئ باتفاق العلماء، ومن قال‏:‏ إنه أفرد الحج، بمعني أنه لم يأت مع حجته بعمرة، فهذا قد اعتقده بعض العلماء، وهو غلط، ولم يثبت ذلك عن أحد من الصحابة‏.‏

/ومن قال‏:‏ إنه أحرم إحرامًا مطلقا، فقوله غلط، لم ينقل عن أحد من الصحابة‏.‏

ومن قال‏:‏ إنه تمتع، بمعني أنه لم يحرم بالحج حتى طاف وسعي، فقوله ـ أيضا ـ غلط، لم ينقل عن أحد من الصحابة‏.‏

ومن قال‏:‏ إنه تمتع، بمعني أنه حل من إحرامه، فهو ـ أيضا ـ مخطئ باتفاق العلماء العارفين بالأحاديث‏.‏

ومن قال‏:‏ إنه قرن، بمعني أنه طاف طوافين وسعي سعيين، فقد غلط أيضًا، ولم ينقل ذلك أحد من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فالغلط في هذا الباب وقع ممن دون الصحابة، فلم يفهموا كلامهم، وأما الصحابة فنقولهم متفقة‏.‏

ومما يبين أنه لم يطف طوافين، ولا سعي سعيين لا هو ولا أصحابه، ما في الصحيحين عن عروة عن عائشة قالت‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا‏)‏‏.‏ وقالت فيه‏:‏ فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من مني لحجهم، وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدًا‏.‏

/وفي صحيح مسلم عن طاوس عن عائشة‏:‏ أنها أهلت بعمرة، فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت، فنسكت المناسك كلها، وقد أهلت بالحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يوم النفر‏:‏ ‏(‏يسَعُك طوافك لحجك وعمرتك‏)‏‏.‏ فأبت، فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج‏.‏ وفي مسلم ـ أيضا ـ عن مجاهد عن عائشة‏:‏ أنها حاضت بسَرِف، فطهرت بعرفة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يجزي عنك طوافك بالصفا والمروة، عن حجك وعمرتك‏)‏‏.‏ وفي سنن أبي داود عن عطاء عن عائشة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها‏:‏ ‏(‏طوافك بالبيت، وبين الصفا والمروة، يكفيك لحجك وعمرتك‏)‏‏.‏ وفي الصحيحين عن جابر قال‏:‏ دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة ثم وجدها تبكي، وقالت‏:‏ قد حضت، وقد حل الناس، ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، فقال‏:‏ ‏(‏اغتسلي ثم أهلي بالحج‏)‏‏.‏ ففعلت ووقفت المواقف كلها، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة، وبالصفا والمروة، ثم قال‏:‏ ‏(‏قد حللت من حجك وعمرتك جميعًا‏)‏‏.‏ قالت‏:‏ يا رسول الله، إني أجد في نفسي، أني لم أطف بالبيت حين حججت، فقال‏:‏ ‏(‏فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم‏)‏ وذلك ليلة الحصبة‏.‏

فقد أخبرت عائشة في الحديث الصحيح أن الذين قرنوا لم يطوفوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، إلا الطواف الأول الذي طافه /المتمتعون أولا‏.‏

وأيضا، فقد ثبت بالأحاديث الصحيحة في قضيتها، أنها لما طافت يوم النحر بالبيت، وبين الصفا والمروة، قال لها‏:‏ ‏(‏قد حللت‏)‏، وقال لها‏:‏ ‏(‏يسعك طوافك لحجك وعمرتك‏)‏، وأنه لا يجب عليها قضاء تلك العمرة، ودل ذلك على أن القارن يجزيه طواف واحد بالبيت، وبين الصفا والمروة، كما يجزي المفرد، لا سيما وعائشة لم تطف إلا طواف قدوم، بل لم تطف إلا بعد التعريف، وسعت مع ذلك، فإذا كان طواف الإفاضة والسعي بعده يكفي القارن، فلأن يكفيه طواف القدوم مع طواف الإفاضة، وسعي واحد مع أحدهما بطريق الأولي‏.‏

ومما يبين ذلك أن الصحابة الذين نقلوا حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم نقلوا أنه لما طاف الصحابة بالبيت، وبين الصفا والمروة، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتحلل إلا من ساق الهدي، فإنه لا يتحلل إلا يوم النحر‏.‏ ولم ينقل أحد منهم أن أحدًا منهم طاف وسعي، ثم طاف وسعي، ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلما لم ينقله أحد من الصحابة علم أن هذا لم يكن، وعمدة من قال ذلك أثر يرويه الكوفيون عن على، وأثر آخر عن ابن مسعود، وقد روي جعفربن محمد عن أبيه محمد بن على أنه كان يحفظ عن على بن أبي طالب للقارن طوافا واحدًا بين الصفا والمروة، خلاف ما يحفظ أهل/ العراق‏.‏ وما رواه العراقيون منه ما هو منقطع، ومنه ما رجاله مجهولون أو مجروحون‏.‏ ولهذا طعن علماء النقل في ذلك، حتى قال ابن حزم‏:‏كل ما روي في ذلك عن الصحابة لا يصح منه ولا كلمة واحدة، وقد نقل في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ما هو موضوع بلا ريب‏.‏

وأيضا، ففي الصحيحين عن ابن عمر قال لهم‏:‏ اشهدوا أني قد أوجبت حجًا مع عمرتي، ثم انطلق يهل بهما جميعا، حتى قدم مكة فطاف بالبيت، وبالصفا والمروة‏.‏ ولم يزد على ذلك، ولم يحلق ولا قصر، ولا أحل من شيء حرم منه حتى كان يوم النحر، فحلق ونحر، ورأي أنه قد قضي طواف الحج والعمرة بطوافه الأول‏.‏ ثم قال‏:‏ هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأيضا، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة‏)‏، وإذا دخلت فيه لم تحتج إلى عمل زائد على عمله‏.‏ وقد روي سفيان الثوري عن سلمة بن كُهَيل، قال‏:‏ حلف لي طاوس ما طاف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته وعمرته إلا طوافًا واحدًا‏.‏

وقد ثبت مثل هذا عن ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وغيرهم، وهم من أعلم الناس بحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يخالفونها‏.‏

/فهذه الأحاديث الثابتة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين‏:‏ أنه لم يطف بالبيت، وبين الصفا والمروة إلا طوافا واحدًا‏.‏ فتبين بذلك أن الذي دلت عليه الأحاديث هو الذي قاله أئمة أهل الحديث، كأحمد وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، وأنه لم يطف إلا طوافا واحدًا بالبيت، وبين الصفا والمروة، لكنه ساق الهدي، فمن ساق الهدي فالقِران أفضل له من التمتع، ومن لم يسق الهدي فالتمتع أفضل له، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، والله أعلم‏.‏